العاقر والعقار والعقيرة

السلام عليكم

كان لنا صديق ـ في مراحل حياتنا المبكرة ـ ذو عقيرة خلابة بالغة العذوبة، وظل صوته برنينه الفطري ينقل ألحانا وأغاني ذائعة الصيت لجهابذة الأغنية الكلاسيكية كعبد الوهاب، وزكريا والحمولي وكلثوم وغيرهم كثير.
داهمته يوما رغبة ملحة ليصبح صاحب عقار، أي يمتلك مبنىً مستقرا ثابتا لا يمكن نقله أو تحريكه، فاختفت العقيرة بين حيطان العقار، بحيث لم يعد يملك القدرة على تشديد (قاف العقار) على الأقل ليصبح دواء يعالج به ما أصاب عقيرته،
دعك الآن من كونه رحل عن الحياة ـ رحمه الله ـ عاقرا دون إنجاب منذ شهور عديدة ودون أن يدري ـ لو أنه امتلك قدرا من الإدراك اللغوي ـ أن العَقَرَ إذا أصاب أحدنا فإنه يعني أننا نظل في مكاننا لا نتقدم ولا نتأخر، في مثل عصرنا الذي يضغط على أعصابنا الآن ليحاصرنا بأهمية أن لا نقع في معاقرة ما يحاصر حركتنا: الجسدية والعقلية.
ولعل الإدمان على معاقرة الخمر هي أخطر ما داهم الإنسان خلال مختلف العصور والدهور، وكل الأديان، وعلى رأسها ديننا الإسلامي الحنيف، وما ترتب عن ذلك من حضارات، على درجات متفاوتة من تنبيه واعظ حتى تحريم صريح ولعله أكثر من تحريم إذ هو الإبتعاد بالمرة عنه والميسر، وفي المجال الطبي والصحي وعلم السموم، تقع معاقرة الخمور ( والمخدرات التي لا نميل إلى استخدام معاقرتها بديلا لتعبير الإدمان ) تحت سطوة التحذير الواضح والصارم، وهو مايؤدي بنا إلى الإنتباه الضروري لما حدث من اتساع مذهل في معنى المعاقرة خارج دوائر الخمور ثم المخدرات وغير بعيد المستخلصات البترولية التي انتشرت بين صبيان الشوارع ونرجيلة المقاهي التي تستهدف الفتيات أكثر من الشباب الذي تسهل عليه مغازلة المتعاطيات
كل هذا لتصل إلى الوقوع في دوائر أخرى تبدو طيبة وجميلة إذا ظلت ذات نسببة معقولة في حياة من تتحقق شخصيته فيها: معاقرة الشِّعر إلقاء وإبداعا، وفن القصة، والرواية، والموسيقى، والرسم، والرحلات، والتجوال في المآثر التاريخية، والتجديف في البحار، والإمعان الفلسفي في الحياة: تدوينا أو بحثا ـ مع قضاء بعض الوقت في مجالات الآفاق الممتدة عند غروب الشمس، أو البحث العلمي، كما لا يجب أن نهرب من الروح التي تميل إلى نوع من المرح لا يتسع ـ عند إدمان معاقرته ـ حتى لا يصبح سلوكا غير مريح، مع أهمية الربط بين الكلمتين: المرح ـ و ـ المريح، كي لا نجد أنفسنا في مأزق المنافسة على المعاقرة.
يقولون: عاقر فلان فلانا: أي سابقه في عقر الإبل تظاهرا بالجود والكرم والسخاء رياء وتحقيقا لشهرة وحظوة بين الناس، فلا يزالان يعقران حتى يُعجز أحدهما الآخر ، وقد كان ذلك في الجاهلية، وقد نهى عنه الإسلام، إلا أنه استشرى في العصر الحديث من خلال المنافسات الشهيرة في المصارعة والملاكمة، ومعاقرات أخرى تودي بأحد المعاقرين إلى الهلاك، إن لم يكن بكليهما معا.. حتى في الكلام المنطلق منافسة بين متحاورين على المسرح إثارة للمتعة بين الجماهير، حيث يدهم الإرهاق أحد المتبارين ـ معاقرة لإندفاع الكلام ـ ليسقط منفعلا ميتا بين تصفيق عارم بالغ الإستمتاع.
وصفة العاقر التي تلازم البشر والحيوان الذي لا يلد، تتحرك إلى الطيور للتعبير عما يصيب ريشها من آفات تعوق نموه، فإذا انعقر ظهر الدابة: فقد أصابه جرح مؤثر في حركتها، أما إذا انعقر البعير والفرس ـ دون تحديد الظهر كما في الدابة ـ فتعني مباشرة أن قوائمها ضربت بالسيف، فإن دهمت الكلب صفة العقور فإنه يصبح سعرانا متوحشا مدمنا على النهش والعض الذي قد يصل حد الإفتراس ويبدو أن ( العُقْرَ ): أصل كل شيء، وعقر الدار وسطها، وعقر القصيدة أحسن أبياتها ـ وهو ما لا تخضع له قصائد ـ أقصد أنواع الشعر الحديث جدا أو ما يعرف بالعمودي، فإذا ما أصابت صفة العقر بيضة الدجاجة فإنها تعني أول بيضة تبيضها في حياتها، مع أن العقر إذا أصاب الدجاجة فقط فإنها تصبح عاقرا لابد من رصدها ومتابعة حركتها كي تصبح ـ بعد ساعات طعاما شهيا، فإذا أردت المزيد ـ قبل الإستمتاع بالدجاجة المشار إليها ـ فإن العقر أصل النار الذي تتأجج منه، أعني أن الفحم يظل فحما حتى يبدأ بالإشتعال فيصبح عقرا، وإذا كان العقار هو الدواء ـ أي دواء ـ فإن العقر منه هو الدواء الذي يمنع الحمل، لا حظ أنها الصفة المعكوسة بين الدواء والمرض الذي يعالجه، فالعقرة ـ مع أهمية أنها تعني أيضا الخرزة التي تحملها المرأة كي لا تحبل،إنتبه يا إبني وصديقي وكذلك أخي المتصفح فإن عقرة العلم، النسيان، أما عقرة التاريخ فهي التزوير، وعقرة الحضارة هي التزييف، وعقرة الأخلاق هي الإنغلاق دون الإنفتاح على المعنى الخصب ـ أو الخصيب ـ للصداقة والتواصل الإنساني...

دمتم في رعاية الله وحفظه

عبد العزيز