~كتاب البطالات~
تأليف:
الفقير إلى ربه، كيلوا الذي يكتب
تدقيق:
كيلوا الذي يقرأ
مراجعة نهائية:
كيلوا الذي يكذب
جميع الحقوق محفوظة لدار القصاصات للنشر والتوزيع
(لا يجوز نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب في أي شكل من الأشكال أو بأي وسيلة من الوسائل –سواء التصويرية أو الإلكترونية أو الميكانيكية، بما في ذلك النسخ الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو سواها- من دون الحصول على إذن خطي من الناشر.)
مقدمة
هذا كتابنا قد قسّمنا أبوابه إلى خمسين بطالة من الأخبار السامجة والأحداث الباطلة، وملأناها كلاما فارغا على أحسن ما استطعنا. على أن الكمال لله وحده، والتقصير آفة بني آدم أيما يعمل، فإذا وجدت –أبقاك الله- أغلاطا، فاغتفرها بكريم عفوك، وإن مررت بعثرات، فتجاوز عنها بطول حِلمك... والسلام.
مقدمة الطبعة الثانية
هذا كتاب البطالات، فمن لم يكن عاطًلا باطًلا، فلا يقرأه لأنه لا يفيده،
ومن كان عاطًلا باطًلا، ففيه سيجد المبتغى، ومنه سيبلغ المراد... والسلام.
مقدمة الناشر
إننا لنأسف إذ نبلغ قرّاءنا، أن الجائحة لما أتت وجعلت تأكل الأخضر واليابس، كان من ضمن ما أكلته، خمس وأربعون بطالة من بطالات هذا الكتاب، ولم تبقَ منه غير خمس بطالات. ولقد بحثنا في أرشيفنا بحثا عميقا ولم نجد نسخة واحدة سليمة، وناشدنا القراء الذين ملكوا الطبعة الأولى بأن يرسلوها إلينا كي نستخدمها في إصدار طبعة فاخرة كاملة، غير أننا لم نجد الجواب.
وعليه فإننا نضع بين أيديكم هذه الطبعة وفيها من النقص ما لا يعوّض، بيد أن الجود بالموجود، والكرماء –من أمثالكم- منبتهم الإغضاء، وسِمتهم قبول الأعذار، فدونكم النسخة وفيها البطالات الخمس السليمة، راجين لكم الفائدة والاستمتاع.
...صاحب القصاصات
الكتاب:
------------------------
البطالة الأولى:
-الحفيد والمترجم
كان من أعجب ما اتفق لي، أنني حين كنت في أيامي الأولى في العمل وقد بدأت لتوي التعرف على زملائي الموظفين، طلب مني زميل رقم هاتفي ليرسل إليّ شيئا، وكنت حينها أضع صورة المنفلوطي لملفي في تطبيق المراسلة، فسألني حينما رآها:
-من هذا؟ جدك؟
فقلت، إنه مصطفى لطفي المنفلوطي، فإذا بحواجب الرجل ترتفع، ونظرته تنمّ عن تفاجؤ كبير.
كان هذا الزميل من مصر، وعرفت منه أن الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي هو جده الثالث. فضحكت منه لأنه لا يعرف صورة جدّه.
وهكذا حدث أن يكون جاري في العمل الملاصق لمكتبي هو حفيد المنفلوطي نفسه، فكنت في أيامي الأولى كلما أردت منه شيئا ناديته بفلان المنفلوطي، أو مررت قربه أنشدته شعرا أو قاضيته نثرا ، وكذلك بقيت أفعل حتى بهت لون المزحة، وانقطعت عن ذلك حفاظا على رسمية العمل.
وإن سألني أحدهم، أيشبه المنفلوطي في شيء؟ أفيه من طلاوة حديثه؟ أيبكي على البائسين كما يبكي جده؟
الحق أنني عندما رحت أدقق النظر فيه، وجدت لو أننا أخذنا شارب المنفلوطي الأسطوري، ووضعناه عليه، لبدا صورةً قريبةً من جدّه! والحق كذلك أن الرجل طيب النفس ولا يرد من يسأله، غير أنه مقطوع الصلة بلأدب، وبينه وبين جده، كـبين المشرقَين والمغربَين.
***
ثم دارت الأيام دورتها، وأتممتُ عاما في العمل، وجاء موظفون ورحل موظفون، وكان في جملة الذين جاؤوا، شاب قد تخرّج حديثا بعد أن درس في أمريكا.
ولأنني أصبحت مخضرما في العمل، أملك 365 يوما من الخبرة، أنشأت أحادثه حديث المحنك الملم بالأشياء، حتى اتصلت بيننا صلة الزمالة. تلك الصلة التي فيها من معاني الصداقة، ولكنها أدنى من أن تكون صداقة حقيقية. وكذلك اكتشفت لاحقا بعد مرور سنوات في العمل، أن كثيرا من العلاقات في العمل مهما بدت قوية وفيها ما في الصداقة من إخلاص واهتمام، فإنها تكون كذلك في مكان العمل وحسب، وليست في سائر الحياة. كأنما نحن أصدقاء بسبب ظروف العمل التي تقتضي ذلك، وفور انقضاء يوم العمل تزول تلك الظروف، فتزول معها أسباب الصداقة، ويمضي كل واحد في سبيله.
وحتى لا يسلك بي الحديث طريقا آخر، أقول: في بعض ما جرى بيني وبين الشاب من حديث، ذكر لي أنه مرة عندما كان في أمريكا يركب الحافلة ذاهبا إلى الجامعة أو عائدا منها، اقترب منه رجل أمريكي مسن، متهندم على مثل ما يتهندم الأساتذة الجامعيون هناك، وجعل يحدثه بعربية فصيحة لا بأس في طلاقتها، فأصبح زميلي مشدوهاً في أول أمره، ثم علم أن الرجل ليس مجرد متعلم للعربية، ولكنه مترجم من الذين ترجموا أعمال نجيب محفوظ إلى الإنجليزية.
صحت به: لقد التقيت مترجم نجيب محفوظ الرجل الذي حاز نوبل! ما كان اسمه؟ وعمَّ كان حديثكم؟
وعبثا كان سؤالي، فإن زميلي لم يكن يتذكر، ولا كان مهتما بمثل هذه الأحاديث. وعرفت منه أنه كان يلتقي بالمترجم في غالب غدواته أو مراحاته في الحافلة، ولكنه نادرا ما حادثه بعد ذلك، إذ كان مقامه في عينه كما في عين غالب الناس، مجرد أستاذ مسن يستخدم المواصلات العامة.
البطالة الثانية:
-بيانو الرجل المقطوع
البطالة الثالثة:
-معرض الكتاب قبل ألف عام
وقعت هذه الحادثة قبل ألف عام، وإذا أردتم تاريخها بدقة، فهو في سنة 2020.
في سنة 2020، كنت أسير في معرض الكتاب مطمئن البال، أراجع قائمتي التي كتبتها على ورقة. كان كرونا في بداية أيامه، والناس لم يتعلموا بعد كلمة "جائحة". لم تكن هنالك كمامات، ولا كاشفات حرارة، ولا جرعة أولى، ولا جرعة معززة وما رافقها من خرابيط. كان ذلك ما يزال مخبوءًا في المستقبل.
وأدّاني السير إلى دار نشرٍ معروفة، حيث رأيت سيدة أنيقة تقوم على بيع الكتب. ووقفت ثمّة أراقب بحذر، وأنتظر الزبائن حتى ينصرفوا، لأنني كنت أحمل في نفسي كلاما للسيدة ولم أكن أريد لأحد أن يسمعه.
وما إن انصرف الزبائن لشأنهم، حتى أشرت إلى أحد الكتب أمامها وقلت بعد السلام:
-لدي ملاحظة بشأن كتابكم هذا!
فـأجابت السيدة الأنيقة بترحاب، وطلبتني الإفصاح.
قلت وكان الكتاب الذي أقصده هو رواية ترجمها الدار حديثا:
-إنني أعرف هذه الرواية وقد قرأتها بلغتها الأصلية –الإنجليزية-. لقد اطلعت على ترجمتكم وقارنتها بالأصل. الحق أن إصداركم هذا ركيك جدا، ومنذ الصفحة الأولى، يجد القارئ كمية أخطاء لا تصدق.
كنت قد اشتريت تلك الرواية قبل المعرض من إحدى المكتبات، وهالني مقدار الأخطاء. إنني لا أبالغ إن قلت لو أن المترجم استخدم مترجم جوجل، لخرجت ترجمته أفضل من تلك التي انتهى إليها الكتاب. وليس ذلك وحسب، بل إن الأخطاء التي وقع فيها، لا يقع في مثلها أي شاب غير متخصص لم يدرس الإنجليزية وإنما تعلمها من المسلسلات والأفلام.
إلى هذا الحضيض كان سوء الترجمة. وما كان يثير السخرية للغاية، هو أنهم كتبوا على الغلاف، ترجمة فلان، وتدقيق علّان.
تدقيق من! ما الذي قام المدقق بتدقيقه؟ ربما حجم الخط، ولون العنوان.
فكيف أجابتني السيدة الأنيقة؟
أشارت إلى كتاب آخر بجانب الرواية وقالت: هل قرأت الجزء الثالث من الرواية؟ إن مترجمها دكتور متخصص، ويصعب أن تكون ترجمته ركيكة.
احتجبت بنفسها بهذا الجواب المراوغ لعله يكون شافيا. وفاجأني أن دارا مشهورة تعمل مثل هذه العمائل. والحقيقة أنني كنت أعلم أن ملاحظتي هذه عبثية ولا تغير شيئا، وسيستمر دار النشر في بيع الكتاب بترجمته تلك، ولكني كنت أريد أن أرى كيف سيتصرف دار ذائع الصيت، أمام ملاحظة زبون مسكين مثل كيلوا الذي يكتب.
قلت، إنني لا أقصد الجزء الثالث.، بل هذا الجزء تحديدا. وبدا أن السيدة الأنيقة غير مرتاحة، وراحت تسألني ما هي الأخطاء بالضبط، ثم قالت إن مترجم الرواية شاب وهذا مشروعه الأول في الترجمة، ووعدتني بأن توصل ملاحظتي لتقوم الدار بمراجعة الترجمة، فكان في جوابها هذا منهاتي عن مواصلة النقاش.
شكرتها وانصرفت وأنا عالم أن الدار لن تراجع الترجمة، وستظل تبيع الكتاب مثلما هو.
لقد وقعت هذه الحادثة قبل ألف عام، في وقتٍ لم يتعلم فيه الناس بعد كلمة "جائحة".
البطالة الرابعة:
-الواقعة الحزينة التي تفطّرت منها القلوب وتندّت لها العيون
هذه واقعة حزينة عرفتها من أحاديث أمينة المكتبة. التقيتها أول مرة في عام 2017،
ولقد عرفت من كلامها أنها قارئة نهمة للغاية وليست مجرد بائعة تبيع الكتب في مكتبة.
حدثتنا أمينة المكتبة. قالت:
-في يوم من أيام العمل المعتادة، وقد كانت المكتبة هادئة كما يجب أن تكون المكتبات، إذ دخل رجل تتبعه فتاة تقارب سن المراهقة، وراحا يتنقّلان بين رفوف المكتبة، تارة أراهم هنا وتارة هناك، يبحثان بحثا في الكتب. وكثيرا ما كانا يحملان كتابا كأنما يقصدان اشتراءه ثم بعد مدة يعودان ويرجعانه مكانه.
وظلّا هكذا يجولان في المكتبة، بين أخذ كتاب وإرجاعه، حتى لاح أنهما أخيرا استقرّا على كتاب. وتقدم الرجل نحوي وبدا متواضعا سمحا، في حين بقية الفتاة بعيدا عند الأرفف.
قال الرجل بصوت خفيض، بأنه سيشتري الكتاب.
كان عندي فضول لأعرف العنوان الذي اختاراه بعد تلك الجولات في المكتبة. ولما وضع الكتاب على منضدة الحساب، اتضح أنه المجلد الأول من رواية الجريمة والعقاب.
قلت له:
-الروايات المكونة من مجلدات تباع دفعة واحدة بجميع مجلداتها، ولا يمكن أن تباع مجلدا مجلدا. فإذا أردت هذه الرواية، فلا بد أن تحضر مجلدها الآخر.
وظهر لي أن الرجل ارتبك قليلا، وأخذ يراوح النظر بين الكتاب على المنضدة والفتاة عند الأرفف، ثم أخيرا قال وقد كانت في كلماته نبرة مسكينة كتلك التي تكون في كلمات الإنسان المعدوم الحيلة:
-ألا يمكن أن أشتري المجلد الأول وحسب؟ الحقيقة أن ابنتي الواقفة عند الأرفف هناك، قد اختارته بعد عناء طويل، ولست أقدر على اشتراء المجلد الآخر معه.
وهنا أخبرني الرجل بأنه لا يملك المال لاشتراء الرواية كاملة، وكان مشفقا على ابنته التي وعدها بأن يأخذها إلى المكتبة ويشتري لها كتابا. وفهمت سبب إرجاعهما سابقا كثيرا من الكتب إلى مكانها.
قلت له:
-آسفة! لا يمكن ذلك.
فتناول الرجل الكتاب من المنضدة، وأرجعه إلى مكانه على الرف، ثم جثا إلى مستوى ابنته، وراح يحدثها بكلماتٍ لم أسمعها ولكنها في الغالب كلمات مواساة.
وحسبتهما سيختاران كتابا آخر يناسب ما لدى الأب من مال، غير أنهما ما إن فرغا من حديثهما، حتى مرّا أمامي مرورا سريعا، وغادرا المكتبة من دون أن يشتريا كتابا. وكم حزنت لهذا، وبقية أتذكرهما طوال اليوم!
***
وكذلك ختمت أمينة المكتبة حديثها إلينا عن هذه الواقعة الحزينة.
وجال في بالي أن أسألها، لماذا لم تتكرم وتجبر خاطر الفتاة بأن تدفع عن أبيها ثمن المجلد الآخر؟
ولكني تراجعت لأنني حسبت أن لها أسبابها الخاصة التي منعتها من فعل ذلك، فقلت مواسيا:
-أجل، يا لها من واقعة حزينة!
البطالة الخامسة:
-النهايات
لطالما تأثرت بنهايات ما كنت أقرأ من قصص، وكنت أجد فيها قوةً، تخلّف وقعًا مؤثرًا في النفس، تجعلها من القليل الذي يدمغ الذاكرة بختم أبدي. كانت بعض النهايات تبدو لي مثل الدوي الذي يخلف صدى يتردد طويلا ويثير رعشة في النفس، وبعضها مثل الشمس حينما تشرق، فتطير العصافير، ويسيل الندى، وتنبعث راحة خبز من مكان ما، فتتلون الحياة، وتستأنف مجراها.
وإن كنت كذلك أحب الجمل الافتتاحية في القصص والروايات كثيرا، فإن القفلات الأخيرة التي تختم بها الأعمال الأدبية كانت أشد تأثيرا، ولا أحسبني من الأقلية في ذلك، فإننا في الغالب نتذكر خواتم الأشياء أكثر من بداياتها، لأن الخاتمة هي التي يكتمل بها المعنى في نفوسنا، وتلبي عندنا ما يشبه حاجة فطرية في معرفة منقلب الأشياء الأخير، وماذا آلت إليه. حتى إننا لنجد من القراء من يزدري عملا كاملا، فقط لأن خاتمته كانت سيئة.
ومن الخواتم التي لا تنسى عندي، كانت في نهاية "التحول" لكافكا.
عندما مات جريجور سامسا الذي كان قد تحول إلى حشرة، أصاب عائلته الحزن ولكنه لم يكن حزنا خالصا، وإنما كانت فيه بهجة الشروع في بداية جديدة، فبرحيل جريجور، زال عبئ عن كاهل العائلة، وأمست خفيفة النفس قد طهّرتها المعاناة، فجاءت الخاتمة تبعث على الاستمرار والأمل رغم الفقد، وتجلّى ذلك في ذكر شقيقة جريجور بشبابها وجمالها:
"وفيما كان الحديث يدور بينهم، نظر كل من السيد والسيدة سامسا في نفس اللحظة تقريبا، إلى ابنتهما التي كانت تزداد حيوية، وخطر لهما معا أن الابنة رغم النكد والمصاعب التي أذبلت وجنـتيها، قد تفتّحت وأينعت مؤخرا، فإذا بها شابة مزدانة بالجمال. بعد ذلك لم يعودا يتكلما كثيرا وأصبحت وسيلة التواصل بينهما هي النظرات...
لما بلغ بهم القطار نهاية الرحلة، نهضت الابنة قبلهما، وتمطّت مُمددة جسدها الشاب."
أجد أنه من الغريب جدا أنني أتذكر هذه النهاية بدقة رغم أنني قرأت الرواية قبل سبعة أعوام أو أكثر، وليس أغلب الفضل في ذلك لذاكرتي الحديدية، ولكن للأثر الجميل الذي خلّـفـته الخاتمة في نفسي.
وإن كنا ننسى، فلسنا ننسى خاتمة "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، فإنها ذلك الدوي المتردد العائش إلى الأبد حتى يعثر على جواب:
"لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟"
أما أحد الذي تأثرت بهم كثيرا، فقد كان زكريا تامر أستاذ القصة القصيرة، لا سيّما كتابه "النمور في اليوم العاشر" وفيه كثير من النهايات التي أعجبتني، أذكر منها الآن قصة قصيرة جدا عنوانها، الصغار يضحكون:
"شاهد الملك يوما عددا من الأولاد يلعبون في أحد الحقول ويضحكون بمرح، فسألهم: لماذا تضحكون؟
قال أحد الأولاد: أنا أضحك لأن السماء زرقاء.
وقال ولد ثان: وأنا أضحك لأن الأشجار خضراء.
وقال ولد ثالث: وأنا أضحك لأن العصافير تطير.
فنظر الملك إلى السماء والعصافير والأشجار، فألفاها لا تضحك، فاقتنع بأن ضحكات الأولاد لا هدف لها سوى الهزء بهيبته الملكية، فعاد إلى قصره، وأصدر أمرا بمنع أهل مملكته من الضحك، فأطاع الناس الكبار السن وكفّوا عن الضحك، غير أن الأولاد الصغار لم يبالوا بأمر الملك، وظلوا يضحكون لأن الأشجار خضراء، والسماء زرقاء، والعصافير تطير."
وأسترجع هنا تشيخوف، وقصة "زواج الطاهية"، ففي نهايتها يكبر إحساسنا ببراءة الأطفال وصفاء الخير فيهم.
كان جريشا ولدا صغيرا في السابعة من عمره، وفي منزله تعمل طاهية اسمها بلاجيا، تقدم لخِطبتها رجل حوذي وضيع، فكان يتساءل تساءل الأطفال، كيف لمثل هذا الرجل أن يكون زوجا للطاهية المسكينة، يأتي ويتحكم بها ويأخذ مالها، ولماذا يشجعها الآخرون على القبول به.
لم يفهم جريشا الصغير أن الطاهية، ليست في مرتبة اجتماعية تسمح لها باختيار الزوج الصالح، وإنما عليها أن تكون عظيمة الامتنان إن تقدم أحد لخطبتها. أي أحد!
في الفقرة الأخيرة من القصة، يتساءل من جديد ويحاول إسعاد بلاجيا بأقصى ما يستطيعه طفل في السابعة:
"مرة أخرى تعود الأسئلة إلى جريشا: لقد عاشت بلاجيا بمشيــئـتها كما تريد وبلا وصاية من أحد. فجأة، ولغير ما سبب على الإطلاق، يظهر أحد الغرباء ومعه تفويض على سلوكها وأملاكها، جاء به من مكان ما!
بات جريشا بغمّه وبحماسة أوشكت أن تفيض دموعه. ود لو يستطيع أن يبدي تعاطفه مع ضحية العنف البشري كما كان يعتقد. اختار من المستودع أكبر تفاحة، وتسلل إلى المطبخ. دسّها في يد بلاجيا، ثم قفل عائدًا."
وهكذا كانت النهاية.
وفي قصة "الوصية" للفرنسي موباسان، قد تبدو النهاية عادية إلى الغاية، ولكني أجد فيها معنى شعور الود الخالص للآخرين. ولقد أوثقت هذه النهاية في نفسي، جمال وعظمة أن يقف بجانبك إنسان لا تربطك به أي صلة، سوى ذلك الحبل المعنوي الذي يجعله يُسر لسرورك ويألم لألمك... ذلك الحبل المعنوي الوثيق الذي اسمه الصداقة.
كان بطل القصة يسرد لصديقه، مأساة أمه التي كابدت حياة مؤلمة على يد أخويه الذين كانا فاترين نحوها، وزوجها الذي احتقرها وقهرها سنوات طويلة.
فكتبت وصيتها وجعلت فيها مشاعرها الأخيرة نحو أولئك المقريين في حياتها. وكان مما كتبته:
"ولداي الكبيران لم يعطفا علي ولم أشعر بحبهما وحدبهما، وبالكاد عاملاني كوالدة لهما... أشعر أيضا بأنني لا أدين لهما بشيء بعد مماتي، لأن روابط الدم لا طعم لها ولا معنى بدون المحبة المقدسة المستمرة على مدى الأيام. الولد العاق في شرعي، أقل شأناً وقدرًا من غريب..."
وواصل بطل القصة قراءة وصية أمه المؤثرة على صديقه حتى بلغ نهايتها،
ثم كان مشهد الختام ونهاية القصة التي حُفِرت في ذهني:
"نهض وسار بضع خطوات، ثم توقف أمامي وقال:
-نعم، أقول إن وصية أمي هي أجمل وأصدق ما يمكن أن تقوم به امرأة. أوليس هذا رأيك أيضا؟
مددت له يدي الاثنتين وقلت:
-نعم وبكل تأكيد يا صديقي.
---------------------------------------------
وهنا ينتهي كتاب البطالات، وإنني لآسف على خمس وأربعين بطالة ضاعت من يدي،
وكذلك يكون في الدنيا أن تضيع الأعمال الفنية العظيمة قبل أن تجد مكانها بين الناس.
لست أدري لمن كتبت هذه المشاركة في هذا المكان الموحش، ولا أعلم إن كان أهل هذه الدار ما زالوا يزورونها بين الحين والحين، غير أني لا أحسب أن في عمر المنتديات بقية، وكان لا بد من وفاء أخير نقدمه من أجل ذكرى تلك الأيام.
مكسات، ثم شبكة شونين، ثم أخيرا العاشق.
أيام، وأي أيام! وذكريات، وأي ذكريات!
إن كان من أحد هنا، فإننا نود لو نرى ما هي أفضل الكتب لديه في 2023،
وإن لم يكن من أحد، فسنكتفي برجع الصدى الذي تردده الجدران في الأماكن المهجورة،
فنحن معتادون على العزلة ولا بأس عندنا بالحديث إلى الجدران.
ربما نعود السنة القادمة من أجل الحفاظ على تقليد المشاركة السنوية المعتادة،
وربما كانت هذه هي آخر ما نكتبه هنا. أقول: ربما!
.
.
.