عرض مشاركة واحدة
قديم 06-30-2023, 12:48 PM   #445
موعدنا بعد ألف عام
 
الصورة الرمزية كيلوا الذي يكتب
رقـم العضويــة: 477232
تاريخ التسجيل: Feb 2018
العـــــــــــمــر: 30
الجنس:
المشـــاركـات: 139
نقـــاط الخبـرة: 41

افتراضي رد: ●● |نقاش الكتب الادبية || ●●

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة о n e e - ѕ α η مشاهدة المشاركة
.

كنا قد هيأنا مجلسنا وصففنا أوراقنا البيضاء وشحذنا أقلامنا الجديدة وأعددنا كوبًا من القهوة السوداء وطبقًا من المكسرات المُملحة، ثمَّ شرعنا نكتب قصةً قصيرة نُشارك بها في مسابقةٍ أدبيةٍ نظمتها وزارة الثقافة الموقّرة بإشراف وزيرها المُحترم، يساعده في ذلك لجنة صارمة من جهابذة الأدب لا يخافون في الله لومة لائم. وكنا قد اطَّلعنا على شروط المسابقة الخمسة والستين مطبوعةً في كتاب من القطع الصغير، وقلنا حينها: إننا نستوفي ربع شروط المسابقة على الأقل، فماذا ينقصنا؟ بل منذا ينازعنا في براعتنا ويناهضنا في مهارتنا ويشابهنا في أسلوبنا؟ وما اشتطَّ بنا الغرور -والحق يُقال- فحمَلَنا على أن ننفض أيدينا عن هذه المسابقة ترفعًا وتعاليًا وتكبّرًا، بل مضينا نزاحم الكتاب أمثالنا، الأمل دليلنا، والحماسة مطيّتنا، والفوز نصب أعيننا.
نظمنا حكاية عن فتى يسيح في المفاوز والقفار ويجوب الفجاج والبحار، وتمضي به الدروب الطويلة المهلكة إلى عالم أرضيّ موازٍ، فيصارع العفاريت والأشباح ويصاحب الحكماء والمجانين وينهي مشكلة الاحتباس الحراري ويكشف سر الأطباق الطائرة. والحق أننا نجهل تتمة الحكاية، إذ نمى إلى علمنا خبر هذه القصاصات الغريبة، وفتَّشنا هنا وهناك عن كاتبِ فذِّ يرد على صاحبها ردًا كافًّا كافيًا شافيًا، ونظرنا يمنةً ويسرةً وخلف الآكام وفوق الروابي فما برز أمامنا أحد، فامتشقنا أقلامنا كما يمتشق فارس الهيجاء سلاحه وأنشأنا نردُّ عليه…


القصاصة 18
أما نحن؛ فلو قيل لنا كما قيل لصاحب القصاصات لاخترنا تولستوي بأعينٍ يقظة، فإذا أغمضناها اخترنا ديستويفسكي.
وربَّ سائل يسأل: ولم تولستوي؟ ولم ديستويفسكي؟ فنجيبه: لأن تولستوي كتب البؤساء، وهذا حسبه. ولأنك ترى كلمات ديستويفسكي وجمله وأحاديثه وكل ما قاله وما لم يقله يجري على كل لسان وشفة وتحت كل يدٍ وقلم وفي كل مدرٍ ووبر.
وربَّ ثانٍ يتعجب: وماذا عن تشيخوف؟ فنقول له: لسنا ممن يفسد على تشيخوف لحظات انغماسه بكتابة قصصه القصيرة جدًا، وخاصة عندما يكتب قصة «المغفل».


القصاصة 122
ربَّما كان عليك -إذا رأيت فيما يرى النائم مرة أخرى- أن تكون أليكسي ألكسندروفتش وتُدعى تحببًا أليوشا، ثم تشرب الشاي من السماور النحاسي وتركب عربة فخمة يجرها حصانان وترتدي حلة أنيقة كحلل الارستقراطيين، ثم لهذا الأمر أو ذاك تقتل نيكولاي سرجييتش أو آنا سيمونوفنا فتغدو بطل الرواية الروسيّة رغمًا عن أنف كاتبها وأنف الكرامة الإنسانية.


القصاصة صفر
إذا كانت القصاصات لانهائيّة فالتعقيبات مثلها كذلك. فطالما قيّض الله لكاتبٍ في مكان قرب أم بعد وفي زمان طال أم قصر أن يكتب هذه القصاصات فسيقيّض الله أيضًا لمن يرد عليه بهذه التعقيبات، سواء عرفنا كاتبها أم جهلنا، اختلفنا معه أم اتفقنا، غضبنا منه أم سُعدنا، رددنا عليه أم صمتنا.
وعلى هذه السنَّة تسير الأمور وفي هذا الطريق تشقُّ الأحداث مجراها، وهذا تمام العدل ومنتهى الحكمة، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

ختامًا نقول: إن كان قد قيل إن القصاصات الواردة أعلاه غير مفهومة -عند قائلها-؛ فإننا نجيبه -دون تحرج ولا تصنع-: إنها مفهومة عندنا، وما احتجنا أن نعصر الصخر ولا أن نصعد الجبل، بل وصلنا معناها جليًّا بينًا في خفةٍ كخفة ريحٍ تحمل نسائم الربيع القادم وفي رقةٍ كرقة عصفور يحطُّ من غصن إلى غصن.
ولو أنا لم نظفر بهذا الفتح العظيم وأصابنا ما أصاب صاحبكم من التحيِّر والتردد أمام معنى هذه القصاصات لكررنا مقالته لا نخشى شيئًا ولا نهاب أحدًا.
أما المعنى فنبقيه سرًا لا نُطلع عليه أيّ مخلوق، ومن رام كشف الحجاب وهتك المستور -كما فعلنا- فليس بينه وبين ذلك إلا إدامة النظر وإطالة التدبر وإعمال الفكر.
والآن بعد أن أدينا ما حمّلنا أنفسنا من واجب، فإننا نعود سالمين آمنين لنكمل حكايتنا ونشرب قهوتنا الباردة كالثلج ونأكل مكسراتنا التي لم تبق أسراب النمل منها مقدار حبَّة.


.
مشيتُ طاويا في صدري كلاما كثيرا، وقد قررت أن أصير مترحّلًا يتأمل في الحياة كأنه ليس فيها وإنما يجلس على مقاعدها الجانبية البعيدة، يراقب ميدانها وما يجري فيه... صامتًا أكثر منه متكلمًا... كاتبًا أكثر منه متحدّثًا.

صعدت أرصفةً مشى عليها قبلي آلاف من البائسين، ورأيت القمر يمدّها من نوره، فهالني كيف أن البؤس يجعل كل ما يلمسه قبيحا حتى ولو كان حلية فضية من نور.

ونزلت سلالمَ تعثر عليها كثيرٌ من الحالمين، وما زالت جراح سقطاتهم تصبغها دما لونه ليس من ألوان الدنيا، لأنه لون دماء الأحلام المائـتة.

وارتقيت المرتفعات ونظرت من الأعالي، فرأيت أفواجا من البشر، لم أستطع من ارتفاعي ذاك أن أميز الفقير والغني، والشقي والسعيد، وبدا لي أن البشر من أعلى كلهم صغار متساوون متشابهون. يعيشون عيشة واحدة، ويموتون ميتة واحدة.

وهبطت إلى أدنى الوهاد، فرأيت الذين كانوا صغارا توًّا، قد أصبحوا جبابرة هائلين، هذا يصرع هذا، وذاك يلطم ذاك.

وشرّقت وغرّبت، وغادرت وقفلت، وأقمت وارتحلت...

لقد مرّ كل هذا بالدنيا، ومر أكثر منه... وبعد هذا كله، أخيرا بدا لأحدهم
أن ينقر على نافذتي نقرًا خفيفا كأنه يريد ولا يريد أن يسمعه أحد.

حينما فتحتها لم أر غير الأشجار تحركها النسمات قليلا قليلا كي تنام.
قلت: لعلها الأشجار نعست، فأرخت على النافذة أغصانها.

غير أني سمعت الأشجار تتكلم في مناماتها، وتقول كلمات عرفت فيها أسلوب شخصٍ كان قد قطع ما كان بيننا موصولا من الوفاق. فجعلت أتناول الكلمات منها بالـرَّويّة، كمن يجمع قطرات الندى من أكف الأوراق الخضراء.

وأنشأت أصنف ما جمعته منها، حتى أتيت على تمام الكلام. وعدت إلى مكتبي حيث أعالج هموم حياتي بالكتابة، وأعدت النظر فيما جمعته من منامات الأشجار. ثم كأنما تلبّست قلمي أطياف عدة، واعترته ما يعتري أولئك الذين يحركهم شيء ساحر خفي، وكان الوقت ليلا، والأشجار نائمة، والنافذة ما تزال مفتوحة، وهواء المساء يتسلل منها، فإذا هي ساعةٌ من ساعات الكتابة.

تحرك القلم من تلقائه، فكتب:

-بين دستويفسكي وتولستوي، وتشيخوف، نقول: دستويفسكي رائع وباهر، ولكنه ثقيل أحيانا كضيف يبقى أكثر من اللازم، فتضيق به ولكنك تجامله لأنه ضيف.

وتولستوي، جميل وفنان، ولكنك أحيانا حينما تقرأ له، تنسى أنك تقرأ رواية أدبية، وإنما مقالة تاريخية اجتماعية. ثم أي بؤساء تلك التي كتبها تولستوي؟ فإننا لا نعلم له عملا بهذا الاسم!

أمّا تشيخوف، فهو صورة تنبعث منها الحياة انبعاثا تحسّه بين ثنايا الأوراق. إن في كتاباته، ذلك الأسلوب الذي يشعرك بحلاوة أشياء الحياة. وهو قادر على فعل ذلك لأن يجيد وصف تفاصيل عالم القصة التي تندمج مع الحالة النفسية لشخصياته. ومن خلال هذا الوصف، تبين لك شخصياته حيّة، على غير ما تبين عند غيره.

ومثالا على ما نقصده، قصة "الحسناوان" في أعماله المختارة، وكذلك "الراهب الأسود"، و"العروس" إذا شئنا الاستزادة. أمّا الحسناوان، فإنني أعود إليها –أو إليهما- بين الحين والحين، لأن جمالها جمال غامض قد نسجه الكاتب من قوة وصفه. وعندي أن الغموض في الجمال، لا يُضاهَى سحرًا.

لن نجد حكما وأقوالا كثيرة من تشيخوف كي نقتبسها مقارنة بدستويفسكي، رغم أن تشيخوف كاتب عظيم لا يقل عن صاحبه في رأيي.

إن القرّاء يقتبسون من دستويفسكي كثيرا، لأنهم ولأننا مفتونون بالحكم الجاهزة، والكلمات الجميلة التي تبدو عميقة... ولا نعيب شيئا في ذلك. إلا أن الجمال المتخفي بين السطور، الذي لا يمكن اقتباسه، ولا يمكنك نقل حكمته إلى الآخرين إلا بنقل بنيان الحكاية كاملة، هو نوع آخر قليل من يدركه، لأنه ليس بالحكم المجردة الجاهزة للنسخ واللصق على حسابات القرّاء في وسائل التواصل.

أجل، فلندع تشيخوف لحاله، كي ينتهي من قصة "المغفل"، ثم سنعرف كيف نقارنها بقصته الشهيرة: "المغفّلة".

وبعد:
-فقد رأيت فيما يرى النائم، أنني أنا ميخائيل بيليوخين إيفانيتش، رفضت أن أغير اسمي لأنني فخور بوالدي الذي أطلقه علي، فقد كان يبذل سنين عمره في العمل حوذيا، يصل الليل بالنهار كي يمسك الرمق علينا. ثم إنهم يدعونني تحببًا "ميشا" وهو عندي أجمل من "أليوشا".

ولقد سماني والدي بهذا الاسم تيمّنا بشقيق تشيخوف، "ميخائيل" الذي كتب إليه -تشيخوف- مرّة:

"إن خطّك جميل، ولم أعثر في خطابك على غلطة نحوية واحدة لكن شيئاً واحداً لم يعجبني فيه، هو لماذا وقّعت رسالتك بإمضاء (أخوك التافه الذي لا شأن له). هل تعتقد حقاً أنه لا شأن لك بين الناس؟ إن الناس يختلفون يا أخي ميشا، لكنك يجب أن تتعلم كيف تحتفظ بكرامتك بينهم، إنك إنسان شريف... أليس كذلك؟ إذن، فلتحمل لنفسك من الاحترام ما هو جدير بإنسان شريف، وتعلم أن الإنسان الشريف لا يمكن أن يكون تافه الشأن أبداً."

وبعد:
-فإننا نشك في أن التعقيبات لانهائية! .... .... ... .. .


،
وانقطع وحي الأطياف التي تلبّست قلمي، وكذلك انقطع القلم عن الكتابة. ولست أدري كيف أصف هذه الحال التي اعترت القلم، بيد أني داخلتني كما داخلت قلمي أطياف شخصيات عديدة، أحدها للذي يكتب، وهناك الذي يقرأ، والذي يكذب، وصاحب القصاصات... ونحو ذلك من صور وأسماء ضبابية. وحسبت أن هذه الأطياف أصلها طيف واحد، خرج من نفس واحدة.

وكيفما كان الأمر، فإن الكلام أعلاه هو جواب لا أعرف كيف جاء، وإنما أعرفه ردًّا لمن شاء أن يكون له رد.

تركتُ الأشجار لنومها، وأغلقت النافذة عائدا إلى مكتبي وقد قررت السهر بين الأوراق والأقلام على جاري عادتي، أسرد ما رأيته من أمور الدنيا واستخلصته من أحداثها، وأستعد لترحالٍ جديد
في مطارح القرى، وساحات المدن، وكسور الجبال، وحصباء الوديان، وقُلل الأطواد، وبُسط السهوب، وعباب البحار، وأكتاف الكثبان.. إلى ما شاءت لي الحياة من عمر، وشاء لي طريق الأسفار.
.
.
.
كيلوا الذي يكتب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس